النقد البناء والتقويم الهادف والحوار الإيجابي

النَقْدُ البنّاء والتقويم الهادف والحوار الايجابي:
تعني هذه المهمّة تنمية روحية النقد البناّء النزيه، والتقويم الهادف الهادئ لدى الامّة، ليشعر كلُّ فردٍ فيها بأهمية دوره الاجتماعي، فيسهم بعملية البناء الاجتماعي، وصيانة الأمّة، وحمايتها من الانحراف، وتعزيز وحدتها واستقرارها، وسيادة الرخاء، ونشر الطمأنينة فيها، وقد أرشدنا القرآن الى ضرورة النَقْدُ البنّاء، لتصحيح المسار، وللعدول عن الطريق الخطأ الى طريق الحقِّ والصواب، من هذا قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} ، ولك أنْ تتبَّع الآيات الكثيرة التي تتضمن النقد والتقويم، لتخرج بعد ذلك بحقيقة وهي: دعوة القرآن الكريم إلى استخدام وسيلة النقد لكشف الاخطاء ومعالجتها، وعدم السكوت عنها، بشرط أنْ يكون النقد بنّاءً لايصدر عن غَرَضٍ، أو مَرَضٍ، أو هوى، أوأنانيّة ضيّقة، لقد صار هذا التوجه القرآني منهجاً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في أمور الحياة الاجتهاديّة، تجلّي ذلك في معركة بدر، وفي تأبير النَخْلِ, وغير ذالك من المواقف الاجتهاديّة، حيث كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستجيب للرأي الاكثر صواباً .
وسار الصحابة الكرام وفق هذا التوجيه، فهذا عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يصعد المنبر يخطب الناس- بعد أنْ جاءته برود اليمن، ففرّقها بُرداً بُرداً، وكان عليه منها بردان فيقول: (اسمعوا رحمكم الله، فقام اليه سلمان، فقال والله لانسمع، فقال عمر: ولم؟ قال سلمان: لأنك فضَّلت نفسك علينا، ففرّقت علينا بُرداً بُرداً، وعليك بردان، فشرح أمير المؤمنين عمر السبب، فقال سلمان: أمَّا الآن فَقُلْ نَسْمَعْ ونُطِعْ) ، هذه أمثلة يسيرة وغيرها كثير، يستطيع المرء الوقوف عليها في كتب التأريخ والسِيَرِ.
وَيَتَّسِعُ مفهوم النقد في الإعلام الاسلامي ليشمل أكثر من مجال، ابتداءً من الإنسان نفسه الذي يتعيَّنُ عليه أن يقوم بنقد نفسه، وما صدر عنه من أقوال وأعمال وتصرُّفات، وهو ما يُسمى النقد الذاتي، يُروي عن عمر رضي الله عنه قوله: (حاسِبوا أنفسَكم قبلَ أنْ تحُاسَبوا) ، ويشمل النقدُ المجتمع الذي يعيش فيه المسلم, حيث إنَّ الإسلام حثَّ على وجوب تناصح المسلمين فيما بينهم، فيرشد المسلم أخاه إذا ضلَّ، وينهض به إذا زَلَّ، وينشطه إذا مَلَّ، لذلك يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عليه ضيعته ويحوطه من ورائه ) ، ويقول الله تبارك تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ، وإنَّ مبدأ النقد الإيجابي يجعل المجتمع في حالة يقظة تامّة، ويجعله يتخلَّص من أسباب الضعف والانحدار، لأنَّ معرفة الأخطاء تُمثِّل نصف الطريق نحو التخلُّص منها، كما أنَّ تحديد العيوب والأخطاء مِنْ شأنه أنْ يحدَّ من انتشارها، ويمنع المجتمع من الاعتياد عليها، ومنْ إقبال الآخرين عليها، وهذا يسميه علماء الاجتماع (الضَبْطُ الاجتماعي) أي أنَّ المجتمع يضبط نفسه بالصورة التي تمنع الخروج على قيمه ومبادئه وتقاليده .
يُؤكِّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: (مثلُ المؤمنينَ في توادهِم وتعاطفهِم وتراحمهِم كمَثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه شئ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، وينبغي أن يتمَّ النقد والتقويم وفق أسلوب الحوار الايجابي، الذي أرشدنا إليه القرآن الكريم، والسنّة النبوية، وتوجيهات العلماء الأثبات المشهود لهم بالوسطيّة والاعتدال، وإنَّ عمليَّة النقد والتقويم والحوار ليست مجرَّد حق في الإعلام الإسلامي، بل هي واجب يقوم بها الفرد وتقوم بها الجماعة، وإن التفريط بها تفريط بالحقوق والواجبات.